التفكير هو أصل كل فعل. وليست الشجاعة أن تقولَ كلّ ما تعتقد، بل الشجاعة أن تعتقدَ كلَّ ما تقول. ولا تستشر من ليس في بيته دقيق فإنّ عقلَه غائب.
السبت، 2 يوليو 2011
كيف يعمل النظام العالمي المعاصر على «استعباد» الجسد الآدمي
كتاب «الحياة الحية..» يكشف كيفية عمل آليات المجتمعات الاستهلاكية على استبلاد العقل البشري
المعطي قبال
نشعر بالارتباك لما نفقد القدرة على عدم الإجابة بشكل واضح عن السؤال القديم: ماذا حدث لنا؟ إن أصبحنا، على الأقل منذ عشرين عاما الأخيرة، غير قادرين على التكهن
بما يقع في العالم، فلنسجل على الأقل هذه الحقيقة. لكشف حقيقة هذا الارتباك علينا أن نتخلص من اليقينيات القطعية، من التبشير ومن نبوءات نهاية العالم. أمام التغيير يواجه كل منا إغراءين: بلادة الرفض أو سذاجة الانضمام. من البله أن نعانق قناعة ما أو ننخرط في قناعة أو معتقد أو نندد بدون أي تمحيص أو تدقيق نظر. فأقل شيء هو أن نسير خطوة بخطوة، العيون مفتوحة، وتحذونا رغبة فهم «الجديد» بدل رفضه جملة وتفصيلا.
جان- كلود غيلبو أحد الأقلام النقدية النافذة والمتميزة في المشهد الفكري الفرنسي. وجد سبيله المعرفي بعد خوضه عدة معارك في مجال الصحافة والنشر، إذ عمل محققا بصحيفتي «لوموند»، «لونوفيل أوبسيرفاتور»، كما عمل مديرا للنشر بمنشورات «سوي» قبل أن يؤسس دار «آرليا» للنشر. يندرج هذا الكتاب ضمن سلك أطلق عليه اسم « الارتباك الحديث»، الذي توج، ما بين 1995 و2009، بـسبعة مؤلفات. كان الغرض من هذا السلك تفسير التحولات التاريخية والأنثروبولوجية التي يعيشها العصر الحديث. تحيل كلمة ارتباك إلى صعوبتنا في فهم ما يقع في عالم اليوم، في وقت تتسارع الأحداث، حيث يصير من الصعب إلمامنا بمعانيها ودلالتها. وتلك قاعدة تاريخية قديمة. إذ لا يفهم المرء مدى وخطورة التحولات إلا بعد قيامها وبعد استعادتها لاحقا. فالأحداث الكبرى التي بصمت المغامرة البشرية، مثل سقوط الإمبراطورية الرومانية، وظهور عصر النهضة، وانبثاق عصر الأنوار الخ... عاشتها البشرية بنوع من الحيرة، من الارتباك ومن التردد وفي الغالب في أجواء من الخوف.
نشعر بالارتباك لما نفقد القدرة على عدم الإجابة بشكل واضح عن السؤال القديم: ماذا حدث لنا؟ إن أصبحنا، على الأقل منذ عشرين عاما الأخيرة، غير قادرين على التكهن بما يقع في العالم، فلنسجل على الأقل هذه الحقيقة. لكشف حقيقة هذا الارتباك علينا أن نتخلص من اليقينيات القطعية، من التبشير ومن نبوءات نهاية العالم. أمام التغيير يواجه كل منا إغراءين: بلادة الرفض أو سذاجة الانضمام. من البله أن نعانق قناعة ما أو ننخرط في قناعة أو معتقد أو نندد بدون أي تمحيص أو تدقيق نظر. فأقل شيء هو أن نسير خطوة بخطوة، العيون مفتوحة، وتحذونا رغبة فهم «الجديد» بدل رفضه جملة وتفصيلا. في هذه الظروف، إن كان الخوف نصيحة سيئة، فإن الحنين أكثر سوءا، يقول الباحث. قبل أن يضيف: «أحترم المحافظين الذين يتأسفون ويبكون عالما اختفى. أعطف على الأسى الذي يشعرون به، لكن خطاباتهم تبقى مملة لما تتكرر. كما لا أومن بما يسمى بـ«الإصلاحات». حاولت تجنب التشاؤم الاستعراضي والصخب المسرحي. في نظري، أي تحول، سواء كان تكنولوجيا، اقتصاديا، جيو-سياسيا، يحمل في ثناياه وبشكل حميمي الأفضل والأسوأ. أن نتجاوز الارتباك ونسلم بـ«المعرفة السارة»، التي تحدث عنها نيتشه معناه أن نوفر الإمكانيات الكافية للمساهمة في «الفرز» الديمقراطي، لكن دون التخلي عن «مذاق المستقبل» الذي ينظر إليه ماكس فيبر بأنه أحد أشكال الديمقراطية.
يسعى هذا الكتاب مثله مثل الكتب التي تليه أن يكون كفاحي النبرة والمسعى. فبقدر ما تتطور معرفتنا بالأشياء نصبح على نباهة حيال اللامساواة، الجور، والاستبداد المستشري حولنا. وكانت الأزمة البنكية، الاقتصادية والسياسية فيما بعد، التي وقعت في سبتمبر 2008، أحد مظاهر هذا الوضع. كانت هذه الأزمات مهيبة، خصوصا أنها استعملت تيمة «التغيير» وتمت أيضا باسم الحداثة أو «القطيعة». فأولئك الذين هم على رأس هرم القرار والسيادة قدموا وعودا لم تكن في الأخير سوى فتات طاولات. كما صيغت هذه الوعود بناء على بلاغة كاذبة.
الهيمنة كمقولة متغيرة
يبحث العصر عن كلماته منذ ثلاثة عقود بحكم أنه يفتقر إلى المفاهيم التي يمكن أن تعرف به أو على الأقل أن تقدم عنه تعريفا دقيقا. فالحديث عن «الأزمة» أصبح حديثا مبتذلا. وينطبق نفس الشيء على كلمة أخرى سائدة الاستعمال، ألا وهي «القفز» من زمن إلى آخر، من حقبة إلى أخرى. من هنا ضرورة البحث والعثور على العبارة الدقيقة والصحيحة. عرف إليا بريغوجين، الحاصل على جائزة نوبل للكيمياء، «الحداثة الأولى» بكونها «انشعابا كبيرا». فيما تحدث البعض الآخر عن «اللحظة المحورية»، وهي العبارة التي استعملها كارل ياسبرز. أما جان-كلود غيلبو فقد أشار إلى «إعادة تأسيس العالم» أو «بداية العالم». أما العالم الإثنولوجي والسوسيولوجي جورج بالاندييه فتحدث عن «التغيير الكبير». اليوم يلاحظ انتشار مفهوم «التميز» أو الفرادة. على أي، لنترك جانبا المفاهيم التي يلوح بها البعض مثل «الانهيار»، «السقوط»، «الكارثة»، «حرب الحضارات»، «نهاية التاريخ»، «البربرية». من بين جميع الخطابات، يبقى ما يمكن أن نسميه خطاب «القلق والتخوف» الأكثر ثرثرة. فهو يهيج المزيفين ويخدم الديماغوجيين. كما تتوفر حوانيت التخوف على خانة في الإعلام، منها توجه لنا يوميا الدعوة إلى التأسف على الزمن الماضي. لكن أي زمن؟
المؤكد أن البحث المعجمي لم ينته بعد. كما أن المغامرة البشرية قد ولجت اتجاهات غير مألوفة لها شكل إعصار غامض هو اليوم قيد خلخلة تصورنا للواقع. كيف يمكن تعيين هذا الشيء والحديث عنه؟ إن العطب الذي يصيب اللغة أكثر خطورة وجدية مما نتصوره. فالكلمات تخلف انطباعا بأنها متقادمة. معناها الأولي شبيه بالنور الوافد من نجم ميت. فقد الكلام معناه ليؤثر هذا الوضع على مصداقية النقاش. إذ أصبحت المساجلات اليومية مجرد مغالطات، حيث طغى اللغط وأخذ أشكال عتاب ومساءلة من نوع: هل أنت مع أو ضد العلم؟ ما رأيك في الإنترنت؟ هل تفضل النزعة الفردية أم العلاقة الاجتماعية؟ هل يجب الدفاع عن العائلة؟ وفي الوقت الذي يتحارب أصحاب اللغو الفارغ، تنبثق أشكال جديدة من الهيمنة ومن التعديات. وعليه فشلت الحقبة في التعريف بنفسها.
هكذا افتقدنا القدرة على الكلام لتعيين الأسماء بشكل دقيق. وحسب جان-كلود غيلبو، دخلنا مرحلة جديدة من الترحال الشمولي بحكم مواجهتنا لحركية أصبحت المبدأ المنظم. لسنا في مرحلة تتميز بـ»نهاية التاريخ»، بل بذوبان مؤقت لإدراك هذه النهاية. فيما مضى كانت علاقتنا بالعالم قائمة على حكاية تربط الماضي بالمستقبل، التراث بالتحول. لكن انفسخت اليوم هذه الرابطة أو العلاقة. انهارت الأنظمة التي كانت لها تاريخيا قدرة تعبوية. بعد الشيوعية، فشلت الرأسمالية في إنتاج المعنى، بل أكثر من ذلك، فشلت في الرفع من قيمة المستقبل. لم يعد هذا الأخير يعرف كوعد أو أمل، بل كخطر. أكثر من ذلك، يعمل السوق الكبير استنادا على قيم وعلاقات لم يكن هو مبتكرها. يشبه ذلك وارثا لا يزال يعيش على ميراث حضاري هو قيد الانقراض. نخمن وعلى نحو مبهم بأن ثمة اتجاه آخر، نموذجا آخر واختيارا آخر، لكن لا أحد بقادر على تعريف هذا البديل. إن الحظوة التي أصبحت تتمتع بها كلمة «ما-بعد» (ما بعد الحداثة، ما بعد العولمة الخ...)، والغموض الناتج عنها هو علامة من علامات الاختلال السياسي وهو اختلال غير مألوف. يمكن لاستعارة الترحال مرة أخرى، أن تنير سبيلنا. لربما لم نصبح قادرين بعد على تأليف شكل من أشكال الخطاب له قدرة تنظيم علاقتنا بالزمن وبالتاريخ.
سرعة التحرر
إن المفاهيم، التي هي بمثابة طوب للأفكار، والتي تتيح إمكانية «السرد» أصبحت تظهر ميلا إلى الانفلات لما نسعى أو نحاول أن نتمكن منها. فهي تنبني على دلالات مؤقتة، متغيرة، غير يقينية، وممتزجة. حتى الأفكار توجد في وضع ارتحال. من ذا الذي يقدر اليوم على تقديم تعريف صحيح للفرد، للكائن البشري، للوعي، للواقع والمادة؟ لاستعمال عبارة قديمة، فإن جميع المفاهيم، التي تعرف علاقتنا بالعالم، أصبحت مفاهيم مشكوكا
فيها. إن كنا مرتحلين في الفضاء وفي الفكر، فنحن أيضا رحل في الزمن. يتخذ هذا الترحال الزمني عدة مظاهر. أحد هذه المظاهر هي السرعة الإجبارية. إذ أصبحت لهذه السرعة هيمنة كبرى لأنها تفتت الزمن الإنساني. تلك هي الفكرة التي يدافع عنها الفيلسوف الألماني هانز بلومنبيرغ (1920 – 1990) حين يؤكد على المعارضة الواضحة بين «زمن الحياة» و«زمن العالم». فقد تحررت التكنولوجيا مثلها مثل الاقتصاد، والمال، والإعلام من الزمن الإنساني التقليدي بإيقاعه الثقيل. الغريب أن وفرة الخيرات والإنجازات في الأساليب التقنية لم تساعدنا على ربح الزمن، بل على العكس قلصته. والنتيجة، يتقلص الفضاء بمجرد ما يصبح الزمن قصيرا. وقد أوضح نتاج الفيلسوف بول فيريليو هذه المفارقة. إن هذا الفضاء-الزمني هو خارج الإدراك البشري، لما تصبح زمنية العصر شيئا مسيبا.
اتخذ الترحال الفضائي-الزمني أشكالا جديدة، بما فيها الأشكال الجنيالوجية. ولأول مرة في التاريخ تبين أن المغامرة الإنسانية لم تجرب تغييرا بمثل هذه السرعة، مع العلم أن التغيير لم يشمل ولم يمس بنفس الكيفية جميع البلدان والشعوب. إذ أن النوع البشري اتخذ شكل مسيرة مختلطة لزمنيات متباينة. إذ لم يعد يتعايش رجال ونساء، بفارق عشرين أو ثلاثين سنة، وكفوا عن أن يصبحوا «متعاصرين». تواجدت بالكاد عبر التاريخ مستويات متباينة من النماء، لكنها لم تكن بشكل عنيف كما هي عليه اليوم. انبثقت فجوة في مبدأ الإنسية تسربت إليها أنظمة جديدة من اللامساواة والهيمنة. يصعب انتقادها ومحاربتها بسبب أنها تتقدم مقنعة الوجه وبنيات حسنة. هذه الأنظمة هي أول من يستفيد من الإنهاك الذي أصاب اللغة ومن الخلل الذي لحق بزمنية التاريخ. أما المظاهر الجديدة للهيمنة فيترجمها انعدام الكلمات والمفاهيم. كما أن إحدى نتائج اختلالات الفكر النقدي هي فقدان المجتمعات حسها السياسي.
أنظمة الإعلام الجديدة كوسيلة للهيمنة
في خضم هذا الغموض العارم، يبدو مفهوم الهيمنة ذا فائدة ناجعة. كانت جوديث بيتلير وكاترين مالابو أول من استعمل هذا المفهوم في الكتاب المشترك الذي جمع بينهما في عنوان: «كن جسدي». وهي قراءة معاصرة للهيمنة والاستعباد في نتاج الفيلسوف هيغل. ويستلهم جان-كلود غيلبو روح هذا المفهوم ليطبقه على ميادين يعتبرها خاضعة لمبدأ المحاكاة والهيمنة، أي أن عددا من الابتكارات التكنو-علمية، يمكن أن نؤولها تبعا لمفاهيم الهيمنة والاستعباد. فغالبا ما نواجه أجهزة، بل أنظمة يصعب التحكم فيها، وهي أجهزة تخلط بشكل غامض بين الوعود والتهديدات. كما أنه من الصعب التحكم في الأيديولوجية التي تقوم عليها. بهذا الشكل أصبح الاقتصاد العالمي «نظاما». أما الجهاز الإعلامي الكوني، الذي حل محل الصحافة القديمة، فهو أيضا نظام يقودنا إلى الحديث عن «النظام الإعلامي الجديد». تطرح هذه الأنظمة نفس المشاكل والصعوبات على المواطنة الديمقراطية. كيف يمكن التمييز بين الإيجابيات التي تقدمها وأشكال الهيمنة التي تفرضها؟ تتجلى الصعوبة الأخرى في كون هذه الأنظمة غير مستقرة في مكان محدد، بل موجودة دائما خارج الحدود، لذا يصعب على الشعوب التحكم فيها. كما أنه لا حول للأنظمة الديمقراطية أمام زحفها القوي. إن السلطة الكبرى التي انبثقت في العالم، سلطة الأنظمة، لا تشبه أي سلطة عرفها التاريخ البشري. تحيل هذه السلطة على بعض الأشكال الحديثة للكارثة: كارثة تشيرنوبيل، انتشار الأوبئة أو الاختلالات المالية التي أصابت عدواها وبشكل صاعق جميع القارات. مثل هذه السلطة تبطل مفعول العمل الجماعي التقليدي. كما أنها تنزع قيمة المنجزات التي حققها الفكر النقدي.
إن «الحياة الحية» التي يدافع عنها جان-كلود غيلبو هي تلك الحياة التي لا تخضع لحسابات الحواسيب ولهيمنة «الخبراء» الذين يكرهون الجسد. أولئك الذين يسعون إلى تحريرنا من لحم الجسد ومن الواقع. على النقيض من ذلك، نجد أن الجسد في أرض الإسلام مثلا حظي باهتمام واحتفاء الفلاسفة والشعراء. وفي هذا المضمار يذكر جان-كلود غيلبو بالتفاتة نيتشه، الذي كان يكره «الحشمة المسيحية»، مشددا على تقديس الجسد لدى المسلمين. في مقطع من كتابه «ما قبل المسيح» (مقطع 59)، يشيد نيتشه «بعظمة الحضارة العربية في إسبانيا التي تخاطب حواسنا وأذواقنا أكثر ما خاطبته روما (الكاثوليكية) أو آثينا (الفلسفية). لكن هذه الحضارة تم دعسها بالأرجل، لا لشيء إلا لأنها قالت نعم للحياة...». لذا فإن الحياة الحية، لا الحياة الرقمية أو الالكترونية، رهان مستقبلي علينا إنجازه بكل السبل