الحديث عنها يستلزم استحضار مفهوم التبادل الثقافي والمفهوم الجيوسياسي للحدود لا توجد مشاكل الذاكرة الفردية إلا مقرونة بعلة، لذلك تحل غالبا على صعيد الطب الفيزيولوجي والنفسي، لأن الأصل فيها هو التذكر والاستذكار، لكن مشكلات الذاكرة الجماعية هي كل العلل وكل الأمراض: أمراض السياسة وأمراض الثقافة وأمراض القيم، في المحصلة، فلا يتم الحديث عنها إلا وتكون محط عمليات ثقافية ونفسية ولغوية غير بريئة، يحضر فيها الطمس والتزوير أو التضخيم والتهويل أو الاختزال والتجزيء أو السكوت والإنكار أو النسيان والتناسي أو التجهيل والتجاهل.. فكل حروب السياسة في هويات اليوم تنطلق من الذاكرة الجماعية لتبرير الشرخ، وقد تعود إليها لرأبه.. فهي مصدر معانٍ لا حصر لها، إذ تحمل الحقائق وأضدادها: الشعور بالعظمة والشعور بالدونية، فما يجمع أفراد جماعة ما وما يفرقهم أيضا موجود في ذاكرتهم، لذلك فلا عجب أن كانت -وما تزال- تخضع لعمليات إدماج وتوظيف من طرف مختلف الفاعلين في هذه الجماعة. الإسبان اليوم متفقون على نسيان أو تناسي ماضيهم القريب وجروحه الغائرة ويحاولون دملها بالماضي البعيد الممتد إلى طرد المسلمين من الأندلس.. المصريون يذهبون عميقا، إلى زمن الفراعنة.. الجزائريون يحاولون نسيان تسعينيات القرن العشرين، بإيقاف ساعة الزمن في حرب التحرير.. أما في المغرب، فإن حروب السياسة في الحاضر تتخذ من الذاكرة مسرحا لها، إما لطمسها والدفع -بكل الوسائل- لنسيانها، باسم المصالحة، أو بتعريضها للمساومة.. الذاكرة الجماعية حاملة، إذن، لكل القراءات والتأويلات والعواطف وردود الفعل.. فما هي منطلقات التفكير في موضوع الذاكرة؟ وكيف يمكن بناء الهوية أو تدميرها انطلاقا منها؟ ليست الذاكرة، سواء كانت فردية أو جماعية، معطى جاهزا، بل هي كيان يُبنى، كيان يظل قيد التكون دائما، يحيى، ينمو ويموت أحيانا، تماما كما تموت الأجهزة العضوية في جسم الإنسان. وكما أن الإنسان، أو الجماعات الإنسانية، لا يولد مواطنا، فإنه لا يولد بذاكرة، بل يصير كذلك. يتم الحديث في الأنثروبولوجيا عن شعوب بلا تاريخ، وهو ما يمكن أن نسميه، أيضا، شعوبا بلا ذاكرة. إن الشعب مفهوم سياسي، لأنه جماعة تتكون من مواطنين واعين بحقوقهم وواجباتهم، وبالتالي فإن ذاكرته لن تكون سوى تاريخية وسياسية، لأن الشعب الذي لا ذاكرة له هو الذي لا يمتلك تجربة سياسية ملموسة تخول له بناء ذاته الوطنية وبناء هويته المتميزة وتشييد ثقافته التي تضمن المبادئ والمعايير التي منها يمتح عناصر تأويل وجوده فوق أرض معينة وعبر مراحل ولحظات تاريخية متنوعة. ستكون الذاكرة في هذا السياق بمثابة رأسمال رمزي متعدد وتنوع، تعدُّدَ الشعوب والذاكرات. هناك، من جهة، مسألة التعدد (pluralité)، لأن هناك ثقافات ولغاتٍ وأمما وأديانا ولا يمكننا تصور وجود إنسانية لا تخضع لشرط التعدد هذا. أما من جهة أخرى، فالشعوب تلغي نفسها، كجماعات بشرية منذورة لأفق هو الإنسانية ككل، وهي مفردة متميزة، بينما الثقافات متعددة. إن المشكلة المطروحة هنا هي أن الذاكرة الجماعية للشعوب تتلون بهذا المتعدد، كما تتلبس مسوح الإنساني أيضا، وهنا، يصير ضروريا الوقوفُ عند الدلالة المزدوجة لمعرفة ما هو إنساني في هذه الذاكرة وما هو غير إنساني، لأنها تخص جماعة من الناس، كتعددية خاضعة لمجموعة من المعطيات التي قد تكون متناسقة ومنسجمة أو متنافرة ومتناقضة، حسب نوعية الرأسمال الرمزي الذي يسندها وطبيعة المراحل التاريخية التي اجتازتها والتجارب السياسية والاجتماعية التي ساهمت في تكونها. عدم وضوح الذاكرة الجماعية إن مسألة الذاكرة الجماعية لا تتسم دائما بالوضوح، لأن هناك العديد من العوامل التي تتدخل في تكوينها، والتي ترتبط، عموما، بطبيعة الصراعات التي تخترق كل مجتمع من المجتمعات على حدة. يقول العروي في هذا السياق، في كتابة «من ديوان السياسة»: «يظن الكثيرون، من الأهالي والأجانب، أن تساكُن الأجناس، أو ما يُعتقَد أنها أجناس، خاصية بعض البلدان دون غيرها. الواقع أن التنوع، لا الوحدة، هو الغالب في المجتمعات الخاضعة لسلطة سياسية واحدة. السبب ظاهر، هو أن الدولة تكونت تاريخيا بالغزو.. الانتماء والأفق أمران مرتبطان إلى حد الترادف (الريف المغربي، مثلا، ثقافة ومنطقة). وهذا ما يحدد التربية الأولية». معنى هذا أن سمة التنوع والتعدد هي التي تتحكم في الذاكرة الجماعية وأنها، أحيانا كثيرة، وبالرغم من طابعها الجماعي، لا تنتظمها، بالضرورة، سلطة الواحد السياسي والاجتماعي والعقائدي والثقافي. لا يجب إخضاع الذاكرة الجماعية لاستبدادية المعنى المتراص وواحدية التجربة أو شخصَنَتها، التي كثيرا ما تقود إلى الكوارث، لأنها تطرح نفسها باعتبارها الحقيقة الواحدة والمنتهية لهذه الذاكرة. هنا، بالذات، نلفي أن الذاكرات الجماعية للشعوب لم ترتبط بمعنى أو بتأويل واحد لوجودها السياسي والاجتماعي، بل بمعانٍ وتأويلات متعددة. إن الذاكرة الجماعية مرتبطة بمسألة التأويل الذي لا يكون بالضرورة قارا، ساكنا ومتنهيا، بل قيد التكون والإنجاز باستمرار. هنا، بالذات، يمكن القول إن هناك، من جهة، التأويل المستندَ إلى معنى استبدادي، مرتبط بسلطة المستبد أو بالطابع الفاشي لثقافته، التي لا ترى الآخرين (فئات وشرائح الشعب) سوى كامتدادات وتجسيدات لسلطته، وهو ما يمكن تسميته ثقافة الطاغية، كما هي موجودة في العالم العربي، مثلا. تتماهي ذاكرة الشعب، كليا، مع ذاكرة المستبد ويصير تاريخه هو تاريخ شعبه وصورته مختزِلة لصوره كلها. وهناك، من جهة أخرى، التأويل التحوري المتعدد، الذي يصنعه وينتجه الشعب عبر أحداث ووقائع وهزّات وكوارثَ وأفراحٍ وحقب تاريخية متنوعة، وهو التأويل المفتوح، باستمرار، على أفق التطور والتحول، مهما كانت مأساوية اللحظة التاريخية. حين نتحدث عن الذاكرة الجماعية، من الضروري التمييز بين مفهوم التبادل الثقافي والمفهوم الجيو -سياسي للحدود. إن مفهوم الحد والحدود مشروع، ما دام يستجيب لتعددية الشعوب ـالأمم المعترف بها من طرف الأمم المتحدة، بل ما يتضمنه ذلك من تحديدات للسيادة وحدود عسكرية... إلخ. إزاء مفهوم الحد هذا، تنطرح فكرة معارضة له، مرتبطة بالإشعاع، انطلاقا من بؤر ثقافية متنوعة. إن الخريطة الثقافية للعالم تترسم انطلاقا من تقاطعات لإشعاعات صادرة عن مراكز وبؤر لا تنتظمها بالضرورة سيادة الدولة ّـالأمة، بل تصدر عن إبداعيتها الخاصة ومن قدرتها على التأثير وخلق إجابات عن أسئلة مطروحة، إنه ما يمكن تسميته التداخل الثقافي. يفترض هذا، أيضا، عدم الانغلاق داخل مفهوم ثابت لهوية جماعية متراصة. لا تبنى الذاكرة الجماعية لشعب ما انطلاقا من هوية جامدة، بل انطلاقا من هوية سردية (Identité narrative)، إذ تمتلك الجماعات البشرية، كل على حدة، تاريخا خاصا بها يمكن سرده، وهذا السرد هو إحدى دعائم إشعاعها الثقافي. إن السرد التاريخي والسياسي هنا مكون من مكونات هذه الهوية المتحولة والمتعددة، التي على أساسها تبنى الذاكرة الجماعية لشعب ما. هذه الهوية السردية هي حكايات حياة الشعوب والأمم، حكاية الوعود التي أسستها والكوارث التي اخترقتها. إن ذاكرة شعب ما محكومة بهذه الهوية السردية، التي تشتغل على الماضي، ومحكومة، أيضا، بالوعود المفتوحة على المستقبل، والتي ترنو الجماعة (الشعب) دائما إلى تحقيقها وإنجازها. المسيرة الجدلية للذاكرة إنها مسيرة جدلية تؤدي، أحيانا، بشعوب بأكملها إلى أن تظل أسيرة ذاكرة جماعية ارتكاسية ونكوصية تقوها، تبعا لذلك، إلى الخروج بشكل إرادي اختياري من سيرورة التاريخ أو تؤدي بأخرى إلى التماهي مع ذاكرة مسكونة بالوعود، تحررت من عقدها وتابوهاتها الرمزية والتاريخية، وأسست لمشروع وجود جماعي، باعتباره مشروعَ وعود يَلْزَم إنجازُها. لا يمكن الاشتغال على الذاكرة الجماعية إلا انطلاقا من تفكيك الفضاء النظري والعملي الذي ينتظمها، لإعادة تفكير الانتظامات المعرفية وخرائطيات السلطة داخلها، عبر عملية ذهاب وإياب تاريخية وسردية، للبحث في الماضي والحاضر عن نصوص الثقافة وعلامات المتخيَّل التي تؤسسها. إن الشعوب التي لا تاريخ لها، كما سماها علماء الأنثروبولوجيا، ليست بالضرورة بلا ذاكرة، والفرق الوحيد هو أنها ذاكرة لم تُسلَّط عليها أضواء الكتابة، أي ذاكرة شفوية غير مكتوبة. لقد نظرت المركزية العرقية الثقافية الأوربية إلى الشعوب الأخرى انطلاقا من أولوية الكتابة وتدوين نصوص الذاكرة، دون القبول بأن ثقافات كثيرة ظلت نائية بعيدا جدا عن المعرفة والتدوين. من الضروري، بالنسبة إلى الاشتغال على الذاكرة، الانتقال من «التاريخ»، بمعناه الواسع إلى «السُّرود» (من السرد). إن التاريخ هو علم المجتمعات وأحداث الماضي ووقائعه، بينما تتعلق السرود والحكايات الواقعية أو المتخيَّلة بعملية بناء سردي. إن التاريخ هو ذاكرة الناس، أي نوع من «السرد الواصف» (métanarration)، الواثق من نفسه، بينما تنطرح الحكايات والسرود باعتبارها مخلخلة ليقينيات الذاكرة الواحدية المتراصة التي تتسلح بإسمنت الإيديولوجيا والثوابت المقدَّسة. مثلا، بالنسبة إلى الشعوب التي كانت مستعمَرة أو محتلة، من الضروري أن تمارس نوعا من الاشتغال النقدي المزدوج على ذاكرتها الجماعية، نقد النزعة التغريبية ونقد الذات أو النزعة التقليدانية أو التراث، أي الذهاب والمجيء من وإلى الماضي والحاضر، لإعادة تفكير الماضي والتوفر على إمكانية الفعل والتأثير في الحاضر. إن عنف الحضور الكولونيالي لا يعفى هذه الذوات الجماعية من ممارسة هذا النقد المزدوج لنفسها. إن الكثير من الأعطاب تنجم بالذات عن عدم القدرة على ممارسة هذا النقد والإقامة بشكل نهائي داخل هوية ثابتة تمنح هذه الشعب اليقين، لكنها لا تعفيها من إمكانية السقوط في الهزائم الوجودية وفي نوع من الانتحار في التاريخ والبقاء خارج دائرة الفعل والتأثير، باعتبارها شعوبا قاصرة وعاجزة عن فهم وضعها الاعتباري داخل العالم وإدراك أبعاده. يتعلق الأمر، أيضا، بصدد هذا الاشتغال، بما يمكن تسميته سياسة تمثل الذات والعالم، أي كيف نتوفر على أدوات هامة لبناء صور ثقافية وسياسية مركزية، من جهة، وعلى حكايات وسرود مرتبطة بالتحرر بمستويات وهيآت الاعتراف بالذوات السياسية المقموعة أو المنفية من دوائر الإنتاج الاقتصادي والقرار السياسي والوجودي الاجتماعي، الذي تنتظمه الحياة الكريمة. إن الشعب الذي ينبغي الاشتغال على ذاكرته لن يكون بالضرورة الشعبَ الممكن (le peuple à venir)، الذي يعاد تشكيله انطلاقا من خطابات وتمثُّلات تنتج معانيَّ وجوده الاجتماعي والسياسي والثقافي وتقوم بتأويلها انطلاقا من مؤشرات إيجابية، تعيد إليه الاعتبار كذات جماعية فاعلة. كثيرا ما يتم، في سياقات ومراحل القمع السياسي والإيديولوجي، النظر إلى الشعب باعتباره فائضَ قيمة، أي مجرد وجود دورُه الأساس هو تأثيث الديكور السياسي الذي يتحرك داخله الزعيم -الضرورة... وكثيرا ما يطلب منه، في هذه السياقات، إنتاج تبريرات لسلوكات استبدادية والنظر إليها باعتبارها عادية. ينسحب الأمر، أيضا، على تلك التأويلات الإيديولوجية الثبوتية والمحافِظة، التي قد لا تعترف بالشعب وبذاكرته الجماعية الخاصة والمتميزة، حيث لا تنظر إليه بالضرورة كجماعة من المواطنين، بل فقط كأفراد حاملين لإيديولوجيا ميتافيزيقية تتوخى تحقيق الخضوع لسلطة المعنى الواحد. يجب إعادة الاعتبار للذاكرة الجماعية انطلاقا فقط كم العناصر المكونة لها. إن الشعوب التي تُخفِق عادة في بناء ذاكرتها الجماعية على أسس نقدية هي تلك التي تكون عديمة المرجعية الثقافية، في بعدها النقدي، والتي لا تتوفر بالضرورة على نخبة ثقافية يمكن أن تمارس هذا النقد الثقافي الخلاق للبدائل ولا تتوفر أيضا على نخبة سياسية قادرة على استنطاق سلبيات الماضي وكوارث الممارسة السياسية داخله، لأنها نخبة تكون مستعدة، باستمرار، لممارسة البديل الوحيد الذي يتوافق مع وضعها الاعتباري الهش وطموحاتها اللانهائية، وهو الصمت والتواطؤ. يقول الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: «لا تولد الكائنات الإنسانية مرة واحدة، في اليوم الذي تضعها فيه أمهاتها في العالم، بل إن هذه الحياة تُلزِمها بأن تلد نفسها يوميا «. إن الاشتغال على الذاكرة الفردية والجماعية للجماعات الإنسانية هو، بمعنى ما، اشتغال على هذه الولادة المتجددة. أحيانا كثيرة، نجد جماعات داخل سياقات استبدادية، تولد وتعيش وتموت مرة واحدة وأخيرة على خط وجودي ينزع عنها كل سمات الإنسانية والكرامة، عبر القمع والإقصاء والتهميش، وأحيانا أخرى، تلفي جماعات ما تَني تولد وتتجدد كل مرة وباستمرار، لتتجاوز سياقا سياسيا وتاريخيا إلى آخر. ليس هناك من دافع هامّ للاشتغال على الذاكرة الجماعية، أكثر من الإحساس بالعار (la honte)، الذي يشعر به العديد من الأفراد في لحظة ما. وانطلاقا من هذا، تحدث الهزات السياسية وتترجم إرادة التغيير أهدافها في خطابات بانية وتبرز الدعوات إلى الإنصاف والعدالة الاجتماعية وضرورة جبر الضرر، كما حدث في جنوب إفريقيا، مثلا، بعد زوال نظام الميز العنصري، وكما حدث إلى حد ما، في المغرب. أحداث تؤرخ للذاكرة يكفي النظر، مثلا، إلى التجربة السياسية الفرنسية، لمعرفة الدور الذي لعبته العديد من الوقائع والأحداث في نسج الذاكرة الجماعية للشعب الفرنسي، بدءا بالثورة الفرنسية وإلى كومونة باريس في القرن التاسع عشر وإلى ماي 86 وغيرها من الأحداث الدالة. من الضروري تفكير الذاكرة الجماعية انطلاقا من تاريخ العنف الذي طالها في مختلف أبعاده، سواء كان عنفا وجوديا، سياسيا، ثقافيا أو اقتصاديا. كثيرا ما ترتاح الأنظمة الاستبدادية إلى فرض السرد المستقر للمعنى، الذي يهدف إلى خلق نوع من التماهي بين الأفراد وإرث المقموعين، كما سماه والتر بنيامين، حتى يدافعوا عن عبوديتهم، كما كانوا يدافعون عن حريتهم. بالإمكان هنا، حتى نقلب فكرة علماء الأنثروبولوجيا، القول إن الشعوب التي لا تاريخ لها هي تلك التي تعيش خارج دائرة السياسة، باعتبارها ممارسة ديمقراطية بين أفراد متساوين في المواطنة ويتمتعون بالعدالة الاجتماعية والإنصاف، أي تلك التي يعيش بلا ذاكرة سياسية وتاريخية. إن هذه الذاكرة الجماعية لا تنكتب إلا على الجسد بالدم والصمت. إن إرث المقموعين يعلمنا، كما يقول بنيامين، أن حالة الاستثناء هو القاعدة ويلزمنا الوصول إلى تصور تاريخي يوضح هذه الوضعية. كلما سجنّا الذاكرة الجماعية داخل سرد تاريخيّ وسياسي مستقر، كلما ابتعدنا عن إمكانية مساءلتها. لقد كان دالا جدا، إبان جلسات «لجنة الإنصاف والحقيقة» في إفريقيا الجنوبية، أن شعبا آخرَ تمثله الأغلبية السوداء مع باقي ألوان الطيف العرقية الأخرى، قد بدأ يتشكل عبر السرود الفردية للقمع والإقصاء والتمييز العرقي والمعاناة وعبر اعترافات الجلادين، بعيدا عن الوضع الاعتباري للشعب الأسود، المقموع في المرحلة السابقة.. معنى هذا أن الإدارة الأخلاقية والسياسية تكون، دائما، ضرورية للاشتغال على الذاكرة الجماعية، خصوصا إذا ما تسلحت هذه الإدارة بالنزاهة والاستقامة الفكرية وبالابتعاد عن الطموحات الفردية ومالت إلى الأخذ بعين الاعتبار أن الأمر يهم شعبا قيد التكوين. إن التاريخ عموما، ومن ضمنه تاريخ الشعوب، غالبا ما يُكتب من وجهة نظر المنتصرين والغزاة أو السلط السياسية المهيمنة، لكنْ حين تتم إعادة النظر في الذاكرة الجماعية والاشتغال عليها، فإن ذلك يتم بهدف إعادة كتابته من وجهة نظر المهزومين والرُّحّل والمقصيين. إن الذاكرة الجماعية ليست قارة ولكنها متحولة وفي حالة صيرورة دائمة، ذاكرة الأفراد الذين تم التكلم باسمهم مرارا، دون أن تُمنَح لهم فرصة الحديث بأنفسهم، وذاكرة الأفراد الذين «سكنوا» المعاناة، كما لو أنها قدَرُهم الأول والأخير. إن صيرورة هذه الذاكرة الجماعية، ذاكرة شعب آتٍ، هي تلك التي يسميها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز صيرورة الناس الذين يتحررون ويُخلّصون ذواتهم من السلطة، باعتبارها هيمنة، ويقاومونها. يجب أن يتساوق داخل كل اشتغال على الذاكرة الجماعية البعد الصراعي والبعد المعرفي وأن نحافظ على مسافة نقدية مع مسألة الهوية، في منظورها الميتافيزيقي والبارانَوي. إن وظيفة النزعة الإنسانية، كما قال المفكر الكبير إدوارد سعيد، هي اكتشاف مناطق الصمت وعوالم الذاكرة الخاصة بجماعات إنسانية تائهة، تجد صعوبة كبيرة في العيش والحفاظ على البقاء.. اكتشاف أماكن الإقصاء وما يتم إخفاؤه وطمسه...
مصطفى الحسناوي
http://www.almassae.ma/node/15190